هروب
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
هروب
هروب
هذه أحداث قصة عن شاب نالت منه الحرب .. شاب يعيش وسط عائلة بسيطة من القرى يمتزج فيها حنان الأم الامتناهي وقسوة الأب والمعيشة ...
_ لقد اعتدنا البرد .... إننا هناك نغتسل بماء النهر ...
كانت أمي تبحث في صرة كبيرة عن طقمي المدني وفجأة كفت يداها عن الحركة وصاحت كمن لسعته جمرة :
_ بالماء البارد ...!!!؟
_ قلت لك بماء النهر ...
وكأنما أشفقت أن يكون ما أقوله حقا .. فارتعش وجهها وأخذت تدعوا على نفسها بالدعوات .. قالت ملحة دون أن تنظر إلي :
_ طمئني يا ولدي لا ترعبني ... ألا تبردون !؟
_ إننا لا نموت من البرد ولكننا .......
_ الحمد الله وأخيرا وجدت سترتك ... لقد كانت مختبئة بالأسفل ...
كنت أقف نصف عار مختال بعظامي الطويلة البارزة :
_ ولكني أريد قميصا ...
_ البس قميصك العسكري الآن ريثما يأتي أبوك فيعطيك قميصه ...
_ حسنا .. فقميصي إذا أخذوه ....
وارتديت البنطال ...
_ ولكن يا أمي هذا ليس بنطالي ...
_ إنه بنطالك ياولدي ... بنطال أخيك أهترأ وصار ممسحة منذ شهرين .. وأبوك لا يلبس بنطالا ولا أنا ..
_ طيب ... أعطني السترة ..
وعندما ارتديت السترة تمت المهزلة .. فقد أطل ساعدي من الكمين كساقي جدي مسلوخ وأصبح الجيب تحت الإبط ..
صحت في ثورة وغضب ...
_ هل تضحكين ؟..
أجابت والموع تنهمر من عينيها مع الضحك :
_ لقد كبرت يا ولدي ... أصبحت طويلا ألا تراني بجانبك كأني ابنتك .. على كل حال سأعطيها لأخيك .. أما انت فستشتري غيرها ...
صحت في غضب لا يقاوم :
_ هذه الملابس العسكرية ليست لي ... ليست لي .. أفهمت ؟.. سيأخذونها مني عندما أسرح .. ماذا أرتدي إذا بعد ذلك ؟.. هل صدقت أنني لا أبرد .. إنني أحس بقلبي إلى الآن يؤلمني .. اشتر غيرها .. من آتي بالمال !؟ ... إن رفاقي يتناولون رواتب من أهلهم وأنا وحدي أعيش على راتب العسكرية ..!!
وطرق الباب بعنف وسمعت وقع أرجل تطرق الأرض .. دخل والدي :
_ كنت أعلاف أنك ستأتي اليوم ... سمعت صوتك من راس الحارة ..
وجمدت في مكاني دقيقة كاملة .. أهكذا يستقبلني أبي بعد غياب ثلاثة أشهر ؟.. والتفت إلي مرة ثانية وتفرس في وجهي :
_ كنت أعلم أيضا أن شاربيك سيشقان لنفسيهما طريقا في وجهك ... أما صوتك فلم أكن أحسب له حسابا ..
وفتل ساعدي بيده بقوة وقال :
_ جيد ... هكذا أريدك أن تكون رجلا ...
وضرب بكفيه وقال لأمي :
_ ألم أقل لك أنه سيجيء اليوم ؟.. إنك لا تصديقنني أبدا ..
ورفع يده يمنعها غن الكلام :
_ أجلي الحديث إلى ما بعد العشاء ... إنني جائع الآن ...
وتطلع إلي قائلا :
_ أليس كذلك يا عمار ؟..
كان والدي رجلا جلفا يحب القوة ويعبد العسكرية ولكنه مع الأسف لم يذق طعمها ... وتمنيت في تلك اللحظة أن يزحف على بطنه وسط الوحول والأشواك ... ويحمل على ظهره رزمة كبيرة من الأمتعة ويسير بها ساعتين .... ويسهر ليلة كاملة ببندقيته وحيدا في الظلام .. ثم بعد ذلك يتحدث عن الخشونة ..
وضرب كفيه على ركبيته وقال كأنه رئيس يمتحن مجندا :
_ ايه يا عمار ... ماذا تفعلون الآن ؟...
وصاحت أمي من المطبخ :
_ عمار هل تحب الكبة ؟ ... صنعتها خصيصا من أجلك إنني أعرف أنك تحبها ...
وانتفخ خدا والدي وهو يأكل الطعام في شهية فظيعة ... أما أنا فكنت أتناول القرص وأقضمه في لذة وعلى مهل ... ولم تشاركنا أمي الطعام ولكنها جلست إلى جانبي واسندت ذقنها على راحة يدها واخذت ترقبني بصمت ...
_ إنني أعرف أنك تحب الكبة ... لقد ملأتها جوزا ودهنا ... كل ... فيها العافية ... هل تأكلون الكبة هناك ..؟
_ إننا نأكل ... نعم نأكل ولكن ليس الكبة .. ولكننا مع هذا نتناوله في شهية بل إننا نأكل هناك أضعاف ما نأكل في بيوتنا ...
_ لأنكم تتعبون ولي على امك ...
وأخذت تدعوا على نفسها بحرارة وكان والدي يرمقها بعينين ضيقتين ... كان كلامها يزعجه كل الإزعاج .. لكنه لم ينطق بحرف .. كان يأكل ويصغي ...
وسألتني أمي :
_ بماذا تفكر ؟... هل أعجبك الطعام ؟...
_ جدا ..
_ إنني أعرف أنك تحبه ..
وكأنما لاحظ والدي أنها أعادت هذه العبارة أكثر من مرتين فرمقها بعين خابية مغيظة ... واغتنمت الفرصة أمي فقدمت له قرصا كبيرا .. وقالت لي :
_ ستمكث عندنا طويلا هذه المرة ... أليس كذلك ؟..
_ أربع وعشرين ساعة ..
_ معنى هذا أنك ستسافر مساء الغد ..
_ لا .. في الصباح ..
وأخذت تدعوا على نفسها وقلبها وقامتها من جديد .... وعادت تقول :
_ وكيف تعيشون هناك ؟.. من يطبخ لكم ؟... وماذا تأكلون ؟.. وأين تنامون ؟..
_ ننام على أسرة حديدية ..
وكف والدي عن المضغ وتطلع في وجهها في شماتة وكأنه يقول لها هل فهمت الآن .. وارتجفت عينا أمي وهي تقول لي :
_ كلما رأيت جنديا في الشارع ظننته أنت فأسرع وأسرع حتى أصل إليه .. ومرة قال لي أحدهم عندما رآني أتأمله في إمعان : ماذا تريدين مني ؟.. فسألته عنك : فقال إنه لا يعرفك .. هل حقا أنكم لا تعرفون بعضكم بعضا هناك ؟...
_ إننا يا أمي أكثر من أن نجتمع في خيمة واحدة ..
_ مسكين قلب الأم كم يتعذب .. ورأيت مرة جنودا ينزلون من باص كبير ... ورأيت بينهم شخصا يشبهك تماما بحذائه وبنطلونه وطاقيته فركضت إليه صائحة : عمار ...
وتأملتها بعيني ... ولم أجرؤ على أن أقول إن تصرفك هذا لايخلو من سخافة .. غير أني قلت في نفسي كم هو أمر مضخك .. قالت إنهم يشبهونني بأحذيتهم ولباسهم ... أما الوجوه فقد نسيتها تماما ...
_ ألا يعذبونكم ؟..
وفجأة جفلت أمي إثر صيحة قوية .. فقد انتهى والدي من الطعام ...
_ كفى أيتها العجوز ... إنني والله لا أدري هل تزعجينه أو تعطفين عليه .. ما معنى كل هذه الثرثرة ؟ ... إنه يعيش أحسن منك ومني ... تصوري لو أن كل أم راحت تبحث عن ابنها في الشارع لانقلب العالم كله إلى خلية من المجانين ...
كان والدي قاسيا في حديثه .. ومع أن كلام أمي لم يحدث في نفسي العزاء الذي كنت أريده أو الترفيه الذي أبغيه إلا أن والدي جعلني أحب ذلك العطف وأتمنى المزيد منه ...
كانت أمي تجفل من والدي وتصمت مباشرة بعد أن يجعر في وجهها ... ساءني أن أكون سببا في مشاجرتهما فنهضت وخرجت من الغرفة فأحسست بأن أمي تتأملني من الخلف في إشفاق وأبي في إعجاب زائد ...
كان بيتنا نظيفا ومعتما كالقبر ... أما حارتنا فكانت تبدو معتمة وصغيرة أيضا ونظيفة أيضا ..
هاهي ذي جارتنا خديجة تطل من النافذة ... نفخت صدري وأملت سيدارتي إلى اليسار .. لم تكن هذه الفتاة في نظري شيئا يذكر .. أما الآن فإنني أراها تختبئ وتخجل ... ليتني أطرق بابها وأدخل كما كنت أفعل في السابق ...
وأطلت خديجة مرة ثانية وكأنما أرادت أن تدلني على وجودها وصاحت :
_ نعم يا ماما أنا هنا ...
عندما كنا هناك ونرى فتاة من بعيد تظل موضوع أحاديثنا ساعة كاملة أما الان ...
وجاءت أمي ...
_ ماذا تفعل هنا ؟..
_ لا شيء ..
في الصباح سفحت ورحت سطلا من الماء وقالت : مع السلامة ... رفعت يدها النحيلة ولوحت وهي تقول : مع السلامة ... مع السلامة ...
.... ....
إنني أقف الآن في هذه الغرفة الكبيرة وسط المستشفى أذكر ما حدث منذ ثلاث أشهر .. لا شك في أن أمي قصرت جدا وأبي سقط جميع شعره ... واعتقد أنهما لا يزالان يفكران بي ...
على كل حال يجب أن لا أعود إلى البيت .. إن وجهي الذي ظلت أمي تتأمله بإمعان قد فقدته ويحسن بي أن لا أعود بهذا القناع من القماش الأبيض ... ترى متى يزيلونه من وجهي ؟.. لا شك في أنهم لا يجرؤون أن أقف على مدى بشاعته فأقذف بنفسي من النافذة ..
سوف لن تعرفني أمي .. ولا يعرفني أهلي جميعا ... أمي تنتظرني في البيت تهيء لي أقراص الكبة ... غير أنني الآن وبعد عودتي من المعركة لا أستطيع أن أمضغ الشوربة ...
لا شك في أنها تبحث عني وتقف أمام كل جندي في الشارع وتسأله : هل تعرف ولدي عمار ؟ فيجيبها : لا أعرفه .. وسيتأملها فيجدها عجوزة ... حمدا لله أن أؤلئك الذين تسألهم عني لا يعرفونني وإلا أصبحت حديث الجميع ...
- إنني أعرف أمه ...
- وأنا أيضا ...
- إنها عجوز قزمة ...
نعم إنهم يسخرون من كل شيء حتى من الموت ... لكنهم سوف يعودون يوما إلى أهلهم يبحثون عن ثيابهم المدنية أما أنا فقد مسخت ثيابي فإذا رجعت فليس لي ما ارتديه ...
هناك عدةأسباب تمنعني من العودة ... ليت أبي يأتي لأصرخ في وجهه بوحشية .. إنني رجل ..
يا الله كم أتمنى أن أبكي الآن ... إنني وحيد فسوف لا يراني أحد سأبكي بصمت وستيتل هذه الخرق البيضاء قبل أن تصل الدموع إلى وجهي المهترئ ... من الخير لي أن لا أفكر أبدا بل أبحث عن حياة جديدة ماذا لو أدرك البلى عقلي ألا يكون ذلك أفضل ؟ ... إن الذكرى تؤلم أكثر من أن تسر ...
_ هل تسمحين لي أيتها الممرضة أن أخرج إلى الشمس قليلا ؟..
_ انتظر حتى يرحل الزائرين ...
وفتح الباب للزائرين ... دخلت أمي .. هل هذه أمي حقا ؟... سحقا لهذه الحياة ...
دق قلبي في عنف غريب لم أعهده في حياتي حتى في أشد المعارك هولا ورعبا ... لو جاءت أمي بحالتها الأولى قبل أن يهدمها معول الزمن ... قبل أن تصبح كومة من العظام لبدوت أمامها أكثر ثباتا ...
أما حرام أن أهرب من هذه الأم المسكينة ؟... كان وجهها شديد الشحوب وقد رفعت منديلها الأسود وأخذت تضحك وتبكي بلا دموع وتغمغم ... عمار ...
كانت تحمل بيدها سلة صغيرة ... ألقت السلة على الأرض وهرعت إلى السرير الأيسر وتعلقت بأرجل المريض .. وهتفت : عمار ...
ترى من أخبرها أنني هنا ؟... كان سريري الرابع من الصف نفسه .. نهضت بهدوء ... وقفت وسط الغرفة ... إذا سألتني هل تعرف عمار فسأجيبها لا أعرفه ... وماذا لو عرفت صوتي ؟.. آه يارب ... إن ذلك ما لا أستطيع فعله ... ترى هل أدرك التشويه صوتي أيضا ؟.. أفضل شيء أن أهز رأسي فقط ...
وقفزت أمي غلى السرير الثاني وأزاحت الغطاء عن وجه صاحبه فراح هذا بيده المفقودة يحاول النهوض ... وعندما وصلت إلى السرير الثالث كان التعب قد أدركها فاستندت إلى حافته واقتربت منه الممرضة ..
_ من تريدين يا خالة ؟..
_ ابني .. حبيبي .. عمار ..
وتطلعت الممرضة إلي وقالت لها شيئا ... هنا لم أحتمل نفسي فاستدرت بسرعة إلى خارج الغرفة ..
في الممشى الطويل سمعت صوت بعيدا ... بعيدا جدا .. وكنت أعدو ... وكان هذا الصوت يعدو ورائي ويخترق أذني ضعيفا كأن أسلاك الهاتف تنقله في ليلة عاصفة :
_ عمار .... عمار ... لقد ... لقد اشتريت لك (حة خفيفة ) .. طقما جديدا ... عمار ... لا تهرب يا بني ... أقراص الكبة معي في السلة ... لا تهرب ستعيش إنسانا من جديد ...
هذه أحداث قصة عن شاب نالت منه الحرب .. شاب يعيش وسط عائلة بسيطة من القرى يمتزج فيها حنان الأم الامتناهي وقسوة الأب والمعيشة ...
_ لقد اعتدنا البرد .... إننا هناك نغتسل بماء النهر ...
كانت أمي تبحث في صرة كبيرة عن طقمي المدني وفجأة كفت يداها عن الحركة وصاحت كمن لسعته جمرة :
_ بالماء البارد ...!!!؟
_ قلت لك بماء النهر ...
وكأنما أشفقت أن يكون ما أقوله حقا .. فارتعش وجهها وأخذت تدعوا على نفسها بالدعوات .. قالت ملحة دون أن تنظر إلي :
_ طمئني يا ولدي لا ترعبني ... ألا تبردون !؟
_ إننا لا نموت من البرد ولكننا .......
_ الحمد الله وأخيرا وجدت سترتك ... لقد كانت مختبئة بالأسفل ...
كنت أقف نصف عار مختال بعظامي الطويلة البارزة :
_ ولكني أريد قميصا ...
_ البس قميصك العسكري الآن ريثما يأتي أبوك فيعطيك قميصه ...
_ حسنا .. فقميصي إذا أخذوه ....
وارتديت البنطال ...
_ ولكن يا أمي هذا ليس بنطالي ...
_ إنه بنطالك ياولدي ... بنطال أخيك أهترأ وصار ممسحة منذ شهرين .. وأبوك لا يلبس بنطالا ولا أنا ..
_ طيب ... أعطني السترة ..
وعندما ارتديت السترة تمت المهزلة .. فقد أطل ساعدي من الكمين كساقي جدي مسلوخ وأصبح الجيب تحت الإبط ..
صحت في ثورة وغضب ...
_ هل تضحكين ؟..
أجابت والموع تنهمر من عينيها مع الضحك :
_ لقد كبرت يا ولدي ... أصبحت طويلا ألا تراني بجانبك كأني ابنتك .. على كل حال سأعطيها لأخيك .. أما انت فستشتري غيرها ...
صحت في غضب لا يقاوم :
_ هذه الملابس العسكرية ليست لي ... ليست لي .. أفهمت ؟.. سيأخذونها مني عندما أسرح .. ماذا أرتدي إذا بعد ذلك ؟.. هل صدقت أنني لا أبرد .. إنني أحس بقلبي إلى الآن يؤلمني .. اشتر غيرها .. من آتي بالمال !؟ ... إن رفاقي يتناولون رواتب من أهلهم وأنا وحدي أعيش على راتب العسكرية ..!!
وطرق الباب بعنف وسمعت وقع أرجل تطرق الأرض .. دخل والدي :
_ كنت أعلاف أنك ستأتي اليوم ... سمعت صوتك من راس الحارة ..
وجمدت في مكاني دقيقة كاملة .. أهكذا يستقبلني أبي بعد غياب ثلاثة أشهر ؟.. والتفت إلي مرة ثانية وتفرس في وجهي :
_ كنت أعلم أيضا أن شاربيك سيشقان لنفسيهما طريقا في وجهك ... أما صوتك فلم أكن أحسب له حسابا ..
وفتل ساعدي بيده بقوة وقال :
_ جيد ... هكذا أريدك أن تكون رجلا ...
وضرب بكفيه وقال لأمي :
_ ألم أقل لك أنه سيجيء اليوم ؟.. إنك لا تصديقنني أبدا ..
ورفع يده يمنعها غن الكلام :
_ أجلي الحديث إلى ما بعد العشاء ... إنني جائع الآن ...
وتطلع إلي قائلا :
_ أليس كذلك يا عمار ؟..
كان والدي رجلا جلفا يحب القوة ويعبد العسكرية ولكنه مع الأسف لم يذق طعمها ... وتمنيت في تلك اللحظة أن يزحف على بطنه وسط الوحول والأشواك ... ويحمل على ظهره رزمة كبيرة من الأمتعة ويسير بها ساعتين .... ويسهر ليلة كاملة ببندقيته وحيدا في الظلام .. ثم بعد ذلك يتحدث عن الخشونة ..
وضرب كفيه على ركبيته وقال كأنه رئيس يمتحن مجندا :
_ ايه يا عمار ... ماذا تفعلون الآن ؟...
وصاحت أمي من المطبخ :
_ عمار هل تحب الكبة ؟ ... صنعتها خصيصا من أجلك إنني أعرف أنك تحبها ...
وانتفخ خدا والدي وهو يأكل الطعام في شهية فظيعة ... أما أنا فكنت أتناول القرص وأقضمه في لذة وعلى مهل ... ولم تشاركنا أمي الطعام ولكنها جلست إلى جانبي واسندت ذقنها على راحة يدها واخذت ترقبني بصمت ...
_ إنني أعرف أنك تحب الكبة ... لقد ملأتها جوزا ودهنا ... كل ... فيها العافية ... هل تأكلون الكبة هناك ..؟
_ إننا نأكل ... نعم نأكل ولكن ليس الكبة .. ولكننا مع هذا نتناوله في شهية بل إننا نأكل هناك أضعاف ما نأكل في بيوتنا ...
_ لأنكم تتعبون ولي على امك ...
وأخذت تدعوا على نفسها بحرارة وكان والدي يرمقها بعينين ضيقتين ... كان كلامها يزعجه كل الإزعاج .. لكنه لم ينطق بحرف .. كان يأكل ويصغي ...
وسألتني أمي :
_ بماذا تفكر ؟... هل أعجبك الطعام ؟...
_ جدا ..
_ إنني أعرف أنك تحبه ..
وكأنما لاحظ والدي أنها أعادت هذه العبارة أكثر من مرتين فرمقها بعين خابية مغيظة ... واغتنمت الفرصة أمي فقدمت له قرصا كبيرا .. وقالت لي :
_ ستمكث عندنا طويلا هذه المرة ... أليس كذلك ؟..
_ أربع وعشرين ساعة ..
_ معنى هذا أنك ستسافر مساء الغد ..
_ لا .. في الصباح ..
وأخذت تدعوا على نفسها وقلبها وقامتها من جديد .... وعادت تقول :
_ وكيف تعيشون هناك ؟.. من يطبخ لكم ؟... وماذا تأكلون ؟.. وأين تنامون ؟..
_ ننام على أسرة حديدية ..
وكف والدي عن المضغ وتطلع في وجهها في شماتة وكأنه يقول لها هل فهمت الآن .. وارتجفت عينا أمي وهي تقول لي :
_ كلما رأيت جنديا في الشارع ظننته أنت فأسرع وأسرع حتى أصل إليه .. ومرة قال لي أحدهم عندما رآني أتأمله في إمعان : ماذا تريدين مني ؟.. فسألته عنك : فقال إنه لا يعرفك .. هل حقا أنكم لا تعرفون بعضكم بعضا هناك ؟...
_ إننا يا أمي أكثر من أن نجتمع في خيمة واحدة ..
_ مسكين قلب الأم كم يتعذب .. ورأيت مرة جنودا ينزلون من باص كبير ... ورأيت بينهم شخصا يشبهك تماما بحذائه وبنطلونه وطاقيته فركضت إليه صائحة : عمار ...
وتأملتها بعيني ... ولم أجرؤ على أن أقول إن تصرفك هذا لايخلو من سخافة .. غير أني قلت في نفسي كم هو أمر مضخك .. قالت إنهم يشبهونني بأحذيتهم ولباسهم ... أما الوجوه فقد نسيتها تماما ...
_ ألا يعذبونكم ؟..
وفجأة جفلت أمي إثر صيحة قوية .. فقد انتهى والدي من الطعام ...
_ كفى أيتها العجوز ... إنني والله لا أدري هل تزعجينه أو تعطفين عليه .. ما معنى كل هذه الثرثرة ؟ ... إنه يعيش أحسن منك ومني ... تصوري لو أن كل أم راحت تبحث عن ابنها في الشارع لانقلب العالم كله إلى خلية من المجانين ...
كان والدي قاسيا في حديثه .. ومع أن كلام أمي لم يحدث في نفسي العزاء الذي كنت أريده أو الترفيه الذي أبغيه إلا أن والدي جعلني أحب ذلك العطف وأتمنى المزيد منه ...
كانت أمي تجفل من والدي وتصمت مباشرة بعد أن يجعر في وجهها ... ساءني أن أكون سببا في مشاجرتهما فنهضت وخرجت من الغرفة فأحسست بأن أمي تتأملني من الخلف في إشفاق وأبي في إعجاب زائد ...
كان بيتنا نظيفا ومعتما كالقبر ... أما حارتنا فكانت تبدو معتمة وصغيرة أيضا ونظيفة أيضا ..
هاهي ذي جارتنا خديجة تطل من النافذة ... نفخت صدري وأملت سيدارتي إلى اليسار .. لم تكن هذه الفتاة في نظري شيئا يذكر .. أما الآن فإنني أراها تختبئ وتخجل ... ليتني أطرق بابها وأدخل كما كنت أفعل في السابق ...
وأطلت خديجة مرة ثانية وكأنما أرادت أن تدلني على وجودها وصاحت :
_ نعم يا ماما أنا هنا ...
عندما كنا هناك ونرى فتاة من بعيد تظل موضوع أحاديثنا ساعة كاملة أما الان ...
وجاءت أمي ...
_ ماذا تفعل هنا ؟..
_ لا شيء ..
في الصباح سفحت ورحت سطلا من الماء وقالت : مع السلامة ... رفعت يدها النحيلة ولوحت وهي تقول : مع السلامة ... مع السلامة ...
.... ....
إنني أقف الآن في هذه الغرفة الكبيرة وسط المستشفى أذكر ما حدث منذ ثلاث أشهر .. لا شك في أن أمي قصرت جدا وأبي سقط جميع شعره ... واعتقد أنهما لا يزالان يفكران بي ...
على كل حال يجب أن لا أعود إلى البيت .. إن وجهي الذي ظلت أمي تتأمله بإمعان قد فقدته ويحسن بي أن لا أعود بهذا القناع من القماش الأبيض ... ترى متى يزيلونه من وجهي ؟.. لا شك في أنهم لا يجرؤون أن أقف على مدى بشاعته فأقذف بنفسي من النافذة ..
سوف لن تعرفني أمي .. ولا يعرفني أهلي جميعا ... أمي تنتظرني في البيت تهيء لي أقراص الكبة ... غير أنني الآن وبعد عودتي من المعركة لا أستطيع أن أمضغ الشوربة ...
لا شك في أنها تبحث عني وتقف أمام كل جندي في الشارع وتسأله : هل تعرف ولدي عمار ؟ فيجيبها : لا أعرفه .. وسيتأملها فيجدها عجوزة ... حمدا لله أن أؤلئك الذين تسألهم عني لا يعرفونني وإلا أصبحت حديث الجميع ...
- إنني أعرف أمه ...
- وأنا أيضا ...
- إنها عجوز قزمة ...
نعم إنهم يسخرون من كل شيء حتى من الموت ... لكنهم سوف يعودون يوما إلى أهلهم يبحثون عن ثيابهم المدنية أما أنا فقد مسخت ثيابي فإذا رجعت فليس لي ما ارتديه ...
هناك عدةأسباب تمنعني من العودة ... ليت أبي يأتي لأصرخ في وجهه بوحشية .. إنني رجل ..
يا الله كم أتمنى أن أبكي الآن ... إنني وحيد فسوف لا يراني أحد سأبكي بصمت وستيتل هذه الخرق البيضاء قبل أن تصل الدموع إلى وجهي المهترئ ... من الخير لي أن لا أفكر أبدا بل أبحث عن حياة جديدة ماذا لو أدرك البلى عقلي ألا يكون ذلك أفضل ؟ ... إن الذكرى تؤلم أكثر من أن تسر ...
_ هل تسمحين لي أيتها الممرضة أن أخرج إلى الشمس قليلا ؟..
_ انتظر حتى يرحل الزائرين ...
وفتح الباب للزائرين ... دخلت أمي .. هل هذه أمي حقا ؟... سحقا لهذه الحياة ...
دق قلبي في عنف غريب لم أعهده في حياتي حتى في أشد المعارك هولا ورعبا ... لو جاءت أمي بحالتها الأولى قبل أن يهدمها معول الزمن ... قبل أن تصبح كومة من العظام لبدوت أمامها أكثر ثباتا ...
أما حرام أن أهرب من هذه الأم المسكينة ؟... كان وجهها شديد الشحوب وقد رفعت منديلها الأسود وأخذت تضحك وتبكي بلا دموع وتغمغم ... عمار ...
كانت تحمل بيدها سلة صغيرة ... ألقت السلة على الأرض وهرعت إلى السرير الأيسر وتعلقت بأرجل المريض .. وهتفت : عمار ...
ترى من أخبرها أنني هنا ؟... كان سريري الرابع من الصف نفسه .. نهضت بهدوء ... وقفت وسط الغرفة ... إذا سألتني هل تعرف عمار فسأجيبها لا أعرفه ... وماذا لو عرفت صوتي ؟.. آه يارب ... إن ذلك ما لا أستطيع فعله ... ترى هل أدرك التشويه صوتي أيضا ؟.. أفضل شيء أن أهز رأسي فقط ...
وقفزت أمي غلى السرير الثاني وأزاحت الغطاء عن وجه صاحبه فراح هذا بيده المفقودة يحاول النهوض ... وعندما وصلت إلى السرير الثالث كان التعب قد أدركها فاستندت إلى حافته واقتربت منه الممرضة ..
_ من تريدين يا خالة ؟..
_ ابني .. حبيبي .. عمار ..
وتطلعت الممرضة إلي وقالت لها شيئا ... هنا لم أحتمل نفسي فاستدرت بسرعة إلى خارج الغرفة ..
في الممشى الطويل سمعت صوت بعيدا ... بعيدا جدا .. وكنت أعدو ... وكان هذا الصوت يعدو ورائي ويخترق أذني ضعيفا كأن أسلاك الهاتف تنقله في ليلة عاصفة :
_ عمار .... عمار ... لقد ... لقد اشتريت لك (حة خفيفة ) .. طقما جديدا ... عمار ... لا تهرب يا بني ... أقراص الكبة معي في السلة ... لا تهرب ستعيش إنسانا من جديد ...
جنرال الحب- عضو جديد
-
عدد الرسائل : 38
العمر : 34
الوظيفة : مصلح كمبيوترات
المزاج : ما بدي حد يجنني يعني مثل ندى الصباح
تاريخ التسجيل : 04/02/2008
رد: هروب
سلمت يا جنرال الحب على القصة الرائعة
هكذا هي الام دائما رمز العطاء مهما لاقت من جفاء
اسال الله عز وجل الرحمة لجميع امهاتنا
سلمت جنرااااااااااااااااال
تقبل مروري ولا تحرمنا جديدك
هكذا هي الام دائما رمز العطاء مهما لاقت من جفاء
اسال الله عز وجل الرحمة لجميع امهاتنا
سلمت جنرااااااااااااااااال
تقبل مروري ولا تحرمنا جديدك
عاشقة الجنان- مـــــــــشــرفة
- عدد الرسائل : 637
العمر : 34
الوظيفة : طالبة
المزاج : بخنجر الصمت مذبوحة
تاريخ التسجيل : 18/01/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى